بعد انتهاء الخلافة الراشدية وانتشار الاسلام خارج الجزيرة العربية انتقل الكثير من القبائل العربية الى المدن الواقعة في الاطار الجغرافي للدولة الاسلامية. في بدايات العصر الاموي وانتقال العاصمة الى دمشق، لم ترغب الكثير من القبائل بالانتقال اليها وذلك بسبب تواجد مركز القوة فيها وفضلوا الانتقال الى المدن التي يكون تأثير الخليفة فيها اضعف خاصة ان عدد منهم في صراع معاوية مع علي بن ابي طالب وقفوا الى جانب هذا الاخير. كما ان الحروب المستمرة على الحدود الشمالية حدت من امكانية التبادل التجاري مع بيزانطية وبالتالي الى خسائر مادية ليست بالقليلة. لذلك فضلت هذه القبائل الانتقال الى مدن العراق الغنية نظرا للامكانيات الزراعية الكبيرة التي وفرتها الظروف الطبيعية من ري وارض خصبة. وقد ادى غنى هذه المدن الى استقطاب الكثير من الشعراء الذين امتهنوا حرفة الكتابة.
ادى الانتقال من الحياة البدوية الى الحياة الحضرية في البصرة والكوفة ثم لاحقاً في دمشق الى تغيرات كبيرة في الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والادبي وتطورت الحياة الفكرية لتشمل الخلفاء والحاشية، من امراء وكبار موظفي الدولة واشراف المدن بغض النظر عن منشئهم.
ورغم الاستمرار في النقل الشفوي للشعر الا ان الكثير من الشعر كان ينقل كتابيا. فمنذ منتصف القرن الثامن الميلادي بدأت كتابة الشعر على الورق الذي تم استيراده من الصين اولا قبل ان تبدأ صناعته في بحترمكسان فدمشق.
كانت البصرة أحد المراكز المهمة في الحياى الادبية وخاصة الشعرية وبقيت تتنافس على مركز السيادة في العالم العربي مع الكوفة وليومنا هذا ، فبالبصرة سكن فحول الشعر في العصر الأموي ، الفرزدق . وامتاز شعر البصرة دائماً بالرقة والعذوبة والتجديد عكس الشعر الكوفي الذي امتاز بالمتانة والمحافظة ، وبقيت هذه الخاصية متأصلة إلى يومنا هذا. وكما اشتهرت مكة في الجاهلية بسوق عكاظ فقد اشتهرت البصرة بالمربد ، بل ان المربد كان اعظم اثراً واكبر مساحةً وأطول عمراً من سوق عكاظ بعشرات المرات ، ولم يكن أثره يقتصر على مدينة البصرة فحسب وانما امتد وانتشر صيته إلى كل العالم الإسلامي . فكان المدرسة التي نما فيها الشعر، وبنيت فيها قواعد اللغة العربية، وتم إثراء الفقه من خلاله، وتخرج منها الكثير من الشعراء والأدباء والفقهاء واللغويون. من المربد تبحترمكج فطاحل العصر الاموي من الشعراء امثال جرير والفرزدق، بشار بن برد ولاحقاً وأبو النؤاس ، الفراهيدي وسيبويه، وغيرهم من قمم أعلام اللغة والشعر والفقه.
في العصر الاموي ازدهر الشعر بشكل كبير. وكان اكثر الشعراء في بداية العصر الاموي ينتسبون في معظمهم الى القبائل العربية الشهيرة التي قدمت من شبه الجزيرة العربية كالاخطل والفرزدق وجرير. ولعل اهم ما في هذه الفترة من عوامل اثرت على الشعر كان الرعاية الرسمية له من قبل الخلفاء والامراء وقادة الجيش وايضاً وجهاء القبائل. فساعدت هذه الرعاية على توسيع الرقعة الجغرافية لانتشار الشعر وايضا تطور مواضيعه وادواته. فكانت العطايا حافزا مهما في ظهور قصائد المدح الجليلة وايضا في اعطاء شعر الغزل صفات اكثر خصوصية مما كانت عليه في الفترة السابقة.
ولعل العامل المهم الثاني الذي ظهر في هذه الفترة كان احتراف مهنة الشعر، اذ امتهنه عدد لا بأس به من الشعراء. وكان للخليفة وغيره من كبار موظفي الدولة ووجهاء العشائر أثر في توجيه الشعر وتطوره ، وأكثر ما كان هذا الأثر في المحترفين من الشعراء وفي شعرهم وعبرهم.
اما مفهوم الاحتراف فقد عنى تنفيذ السياسة العامة للخليفة الذي ان يحق له التصرف مع الشعراء تمتماً كما يتصرف بقادته العسكريين وفق ما تقتضيه مصلحة الخلافة. اذ كان الخليفة يحدد الطريق الذي يسلكه الشاعر، ففقد فيه هذا الاخير جزءاً من اتجاهه الذاتي الخاص وصار هذا الاتجاه بيد (المعيش) وهو هنا الخلافة الأموية التي أستفاد أربابها من التباين الذي حدث بين وضع الشاعر المالي، وبين موقعه الاجتماعي المؤثر، ومن كونها مصدر الرزق. هذا الواقع هو الذي أفقد الكثير من الشعراء التعبير عن تجربتهم ومواقفهم الخاصة وجعل الشاعر المحترف يحصر نشاطه في التعبير عن مواقف الخليفة (ما شابه شعراء الامس بصحفيي اليوم).